الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن (نسخة منقحة)
.النَّوْعُ الرَّابِعُ: الصَّيْفِيُّ وَالشِّتَائِيُّ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْكَلَالَةِ آيَتَيْن: إِحْدَاهُمَا فِي الشِّتَاءِ، وَهِيَ الَّتِي فِي أَوَّلِ النِّسَاءِ، وَالْأُخْرَى فِي الصَّيْفِ وَهِيَ الَّتِي فِي آخِرِهَا.وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ عُمْرَ: مَا رَاجَعْتُ رَسُولَ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ مَا رَاجَعْتُهُ فِي الْكَلَالَةِ، وَمَا أَغْلَظَ فِي شَيْءٍ مَا أَغْلَظَ لِي فِيهِ، حَتَّى طَعَنَ بِأُصْبُعِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ: «يَا عُمَرُ أَلَا تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ».وَفِي الْمُسْتَدْرَك: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: «يَا رَسُولَ الِلَّهِ مَا الْكَلَالَةُ؟ قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ الْآيَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِي الصَّيْفِ {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}» [النِّسَاء: 176].وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ فِي سَفَرِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَيُعَدُّ مِنَ الصَّيْفِيِّ مَا نَزَلَ فِيهَا كَأَوَّلِ الْمَائِدَةِ، وَقَوْلُهُ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [الْمَائِدَة: 3] {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ} [الْبَقَرَة: 281]. وَآيَةُ الدَّيْنِ وَسُورَةُ النَّصْرِ.وَمِنْهُ: الْآيَاتُ النَّازِلَةُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ، فَقَدْ كَانَتْ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَعَبْدِ الِلَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ: «أَنَّ رَسُولَ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يَخْرُجُ فِي وَجْهٍ مِنْ مَغَازِيهِ إِلَا أَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ غَيْرَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي أُرِيدُ الرُّومَ فَأَعْلَمَهُمْ، وَذَلِكَ فِي زَمَانِ الْبَأْسِ وَشِدَّةِ الْحَرِّ وَجَدْبِ الْبِلَادِ، فَبَيْنَمَا رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي جِهَازِهِ إِذْ قَالَ لِلْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ: هَلْ لَكَ فِي بَنَاتِ بَنِي الْأَصْفَرِ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ الِلَّهِ، لَقَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدًا أَشَدُّ عُجْبًا بِالنِّسَاءِ مِنِّي، وَإِنِّي أَخَافُ إِنْ رَأَيْتُ نِسَاءَ بَنِي الْأَصْفَرِ أَنْ يَفْتِنَنِّي، فَأْذَنْ لِي. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} الْآيَةَ [التَّوْبَة: 49]».وَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} [التَّوْبَة: 81].وَمِنْ أَمْثِلَةِ الشِّتَائِيّ: قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ} إِلَى قَوْلِه: {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النُّور: 11- 26]. فَفِي الصَّحِيح: عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمٍ شَاتٍ.وَالْآيَاتُ الَّتِي فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ، فَقَدْ كَانَتْ فِي الْبَرْدِ، فَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ: تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْ رَسُولِ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ إِلَا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، «فَأَتَانِي رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: قُمْ فَانْطَلِقْ إِلَى عَسْكَرِ الْأَحْزَابِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ الِلَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا قُمْتُ لَكَ إِلَا حَيَاءً، مِنَ الْبَرْدِ». الْحَدِيثَ؛ وَفِيه: «فَأَنْزَلَ اللَّهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ الِلَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ}» [الْأَحْزَاب: 9] إِلَى آخِرِهَا. أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ..النَّوْعُ الْخَامِسَ: الْفِرَاشِيُّ وَالنَّوْمِيُّ: وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْفِرَاشِيِّ قَوْلُهُ: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [الْمَائِدَة: 67] كَمَا تَقَدَّمَ. وَآيَةُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، فَفِي الصَّحِيح: «أَنَّهَا نَزَلَتْ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ اللَّيْلِ ثُلُثُهُ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ».وَاسْتَشْكَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَقِّ عَائِشَةَ: «مَا نَزَلَ عَلَيَّ الْوَحْيُ فِي فِرَاشِ امْرَأَةٍ غَيْرِهَا».قَالَ الْقَاضِي جَلَالُ الدِّين: وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ الْقِصَّةِ الَّتِي نَزَلَ الْوَحْيُ فِيهَا فِي فِرَاشِ أُمِّ سَلَمَةَ.قُلْتُ: ظَفِرْتُ بِمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْجَوَابُ الَّذِي أَحْسَنُ مِنْ هَذَا، فَرَوَى أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِه: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «أُعْطِيتُ تِسْعًا» الْحَدِيثَ، وَفِيه: «وَإِنْ كَانَ الْوَحْيُ لِيَنْزِلُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي أَهْلِهِ فَيَنْصَرِفُونَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ لِيَنْزِلُ عَلَيْهِ وَأَنَا مَعَهُ فِي لِحَافِهِ» وَعَلَى هَذَا لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى.وَأَمَّا النَّوْمِيُّ: فَفِي أَمْثِلَتِهِ سُورَةُ الْكَوْثَرِ، لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «بَيْنَا رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا إِذْ غَفَا إِغْفَاءَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا، فَقُلْنَا: مَا أَضْحَكَ رَسُولَ الِلَّهِ؟ فَقَالَ: أُنْزِلَ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ فَقَرَأَ: بِسْمِ الِلَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}».وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ فِي أَمَالِيه: فَهُمْ فَاهِمُونَ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ فِي تِلْكَ الْإِغْفَاءَةِ، وَقَالُوا: مِنَ الْوَحْيِ مَا كَانَ يَأْتِيهِ فِي النَّوْمِ; لِأَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ. قَالَ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لَكِنَّ الْأَشْبَهَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ نَزَلَ فِي الْيَقَظَةِ، وَكَأَنَّهُ خَطَرَ لَهُ فِي النَّوْمِ سُورَةُ الْكَوْثَرِ الْمُنَزَّلَةِ فِي الْيَقَظَةِ، أَوْ عُرِضَ عَلَيْهِ الْكَوْثَرُ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ السُّورَةُ، فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ، وَفَسَّرَهَا لَهُمْ. ثُمَّ قَالَ: وَوَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، وَقَدْ يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْتَرِيهِ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ، وَيُقَالُ: لَهَا بِرَجَاءِ الْوَحْيِ. انْتَهَى.قُلْتُ: الَّذِي قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي غَايَةِ الِاتِّجَاهِ، وَهُوَ الَّذِي كُنْتُ أَمِيلُ إِلَيْهِ قَبْلَ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ، وَالتَّأْوِيلُ الْأَخِيرِ أَصَحُّ مِنَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أُنْزِلَ عَلَيَّ آنِفًا يَدْفَعُ كَوْنَهَا نَزَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، بَلْ نَقُولُ: نَزَلَتْ تِلْكَ الْحَالَةُ، لَيْسَ الْإِغْفَاءُ إِغْفَاءَ نَوْمٍ، بَلِ الْحَالَةُ الَّتِي كَانَتْ تَعْتَرِيهِ عِنْدَ الْوَحْيِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ كَانَ يُؤْخَذُ عَنِ الدُّنْيَا..النَّوْعُ السَّادِسُ: الْأَرْضِيُّ وَالسَّمَائِيُّ: تَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنُ الْعَرَبِيّ: إِنَّ مِنَ الْقُرْآنِ سَمَائِيًّا وَأَرْضِيًّا، وَمَا نَزَلَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَمَا نَزَلَ تَحْتَ الْأَرْضِ فِي الْغَارِ.قَالَ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا التَّمِيمِيُّ، أَنْبَأَنَا هِبَةُ الِلَّهِ الْمُفَسِّرُ، قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ إِلَا سِتَّ آيَاتٍ، نَزَلَتْ لَا فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ; ثَلَاثٌ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ {وَمَا مِنَّا إِلَا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [164- 166] الْآيَاتُ الثَّلَاثُ. وَوَاحِدَةٌ فِي الزُّخْرُف: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} الْآيَةَ [45]. وَالْآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ نَزَلَتَا لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ.قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيّ: وَلَعَلَّهُ أَرَادَ فِي الْفَضَاءِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. قَالَ: وَأَمَّا مَا نَزَلَ تَحْتَ الْأَرْضِ فَسُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.قُلْتُ: أَمَّا الْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَلَمْ أَقِفْ عَلَى مُسْتَنَدٍ لِمَا ذَكَرَهُ فِيهَا، إِلَّا آخِرَ الْبَقَرَةِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى... الْحَدِيثَ، وَفِيهِ فَأُعْطِيَ رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا ثَلَاثًا: أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَغُفِرَ لِمَنْ لَا يُشْرِكُ مِنْ أُمَّتِهِ بِالِلَّهِ شَيْئًا الْمُقْحِمَاتُ».وَفِي الْكَامِلِ لِلْهُذَلِيّ: {آمَنَ الرَّسُولُ} [الْبَقَرَة: 285- 286] إِلَى آخِرِهَا بِقَابَ قَوْسَيْنِ..النَّوْعُ السَّابِعُ: مُعَرَّفَةُ أَوَّلِ مَا نَزَلْ: اخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى أَقْوَالٍ:أَحَدُهَا: وَهُوَ الصَّحِيحُ {اقْرَأْ بَاسِمِ رَبِّكَ}، رَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، فَكَانَ يَأْتِي حِرَاءَ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ اللَّيَالِي ذَوَاتِ الْعَدَدِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ رَضِيَ الِلَّهِ عَنْهَا فَتُزَوِّدُهُ لِمِثْلِهَا حَتَّى فَجَأَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فِيهِ، فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَغَطَّنِي الثَّانِيةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} حَتَّى بَلَغَ {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [الْعَلَق: 1- 5] فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ»... الْحَدِيث.وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ وَصَحَّحَاهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ {اقْرَأْ بَاسِمِ رَبِّكَ}.وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِسَنَدٍ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيح: عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ قَالَ: كَانَ أَبُو مُوسَى يُقْرِئُنَا فَيُجْلِسُنَا حِلَقًا، عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَبْيَضَانِ، فَإِذَا تَلَا هَذِهِ السُّورَةَ: {اقْرَأْ بَاسِمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} .[الْعَلَق: 1] قَالَ: هَذِهِ أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِه: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: «جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ، قَالَ: وَمَا أَقْرَأُ؟ فَوَالِلَّهِ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [الْعَلَق: 1]، فَكَانَ يَقُولُ: هُوَ أَوَّلُ مَا أُنْزِلَ».وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِه: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآن: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [الْعَلَق: 1] وَ{نون وَالْقَلَمِ} [الْقَلَم: 1].وَأَخْرَجَ ابْنُ أَشْتَةَ فِي كِتَابِ الْمَصَاحِفِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: «جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَمَطٍ. فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}» [الْعَلَق: 1] فَيَرَوْنَ أَنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ مِنَ السَّمَاءِ.وَأَخْرَجَ عَنِ الزُّهْرِيّ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بِحِرَاءَ، إِذْ أَتَى مَلَكٌ بِنَمَطٍ مِنْ دِيبَاجٍ فِيهِ مَكْتُوبٌ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} إِلَى {مَا لَمْ يَعْلَمْ}» [الْعَلَق: 1- 5].الْقَوْلُ الثَّانِي: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [الْمُدَّثِّر: 1]. رَوَى الشَّيْخَانِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: «سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبَدِ الِلَّه: أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ؟ قَالَ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}، قُلْتُ: أَوِ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}؟ قَالَ: أُحَدِّثُكُمْ مَا حَدَّثَنَا بِهِ رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي جَاوَرْتُ بِحِرَاءَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي، نَزَلْتُ فَاسْتَبْطَنْتُ الْوَادِي، فَنَظَرْتُ أَمَامِي، وَخَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي، ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا هُوَ- يَعْنِي جِبْرِيلَ- فَأَخَذَتْنِي رَجْفَةٌ، فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَأَمَرَتْهُمْ فَدَثَّرُونِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ}».وَأَجَابَ الْأَوَّلُ، عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَجْوِبَةٍ:أَحَدُهَا: أَنَّ السُّؤَالَ كَانَ، عَنْ نُزُولِ سُورَةٍ كَامِلَةٍ، فَبَيَّنَ أَنَّ سُورَةَ الْمُدَّثِّرِ نَزَلَتْ بِكَمَالِهَا قَبْلَ نُزُولِ تَمَامِ السُّورَةِ اقْرَأْ، فَإِنَّهَا أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْهَا صَدْرُهَا.وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ- أَيْضًا- عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُحَدِّثُ، عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ، فَقَالَ فِي حَدِيثِه: «بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي، فَدَثَّرُونِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِرُ}».فَقَوْلُهُ الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مُتَأَخِّرَةٌ، عَنْ قِصَّةِ حِرَاءَ الَّتِي نَزَلَ فِيهَا {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} .ثَانِيهَا: أَنَّ مُرَادَ جَابِرٍ بِالْأَوَّلِيَّةِ أَوَّلِيَّةٌ مَخْصُوصَةٌ بِمَا بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ، لَا أَوَّلِيَّةٌ مُطْلَقَةٌ.ثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ أَوَّلِيَّةٌ مَخْصُوصَةٌ بِالْأَمْرِ بِالْإِنْذَارِ وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ، عَنْ هَذَا بِقَوْلِه: أَوَّلُ مَا نَزَلَ لِلنُّبُوَّة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [الْعَلَق: 1] وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ لِلرِّسَالَةِ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [الْمُدَّثِّر: 1].رَابِعُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ، وَهُوَ مَا وَقَعَ مِنَ التَّدَثُّرِ النَّاشِئِ، عَنِ الرُّعْبِ، وَأَمَّا (اقْرَأْ) ابْتِدَاءً فَنَزَلَتْ بِغَيْرِ سَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ. ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ.خَامِسُهَا: أَنَّ جَابِرًا اسْتَخْرَجَ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ رِوَايَتِهِ، فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ مَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ. قَالَهُ الْكَرْمَانِيُّ.وَأَحْسَنُ هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ الْأَوَّلُ وَالْأَخِيرُ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: سُورَةُ الْفَاتِحَةِ، قَالَ فِي الْكَشَّاف: ذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ سُورَةٍ نَزَلَتْ (اقْرَأْ)، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ سُورَةٍ نَزَلَتْ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ.قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ هُوَ الْأَوَّلُ. وَأَمَّا الَّذِي نَسَبَهُ إِلَى الْأَكْثَرِ فَلَمْ يَقُلْ بِهِ إِلَا عَدَدٌ أَقَلُّ مِنَ الْقَلِيلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ قَالَ. بِالْأَوَّلِ وَحُجَّتُهُ: مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَالْوَاحِدِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ: «أَنَّ رَسُولَ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِخَدِيجَةَ: إِنِّي إِذَا خَلَوْتُ وَحْدِي سَمِعْتُ نِدَاءً، فَقَدْ وَالِلَّهِ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَمْرًا. فَقَالَتْ: مَعَاذَ الِلَّهِ، مَا كَانَ الِلَّهُ لِيَفْعَلَ بِكَ، فَوَالِلَّهِ إِنَّكَ لَتُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ» الْحَدِيثَ. «فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ ذَكَرَتْ خَدِيجَةُ حَدِيثَهُ لَهُ، وَقَالَتْ: اذْهَبْ مَعَ مُحَمَّدٍ إِلَى وَرَقَةَ. فَانْطَلَقَا فَقَصَّا عَلَيْهِ فَقَالَ: إِذَا خَلَوْتُ وَحْدِي سَمِعْتُ نِدَاءً خَلْفِي: يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ فَأَنْطَلِقُ هَارِبًا فِي الْأُفُقِ فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ إِذَا أَتَاكَ فَاثْبُتْ حَتَّى تَسْمَعَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ ائْتِنِي فَأَخْبِرْنِي. فَلَمَّا خَلَا نَادَاهُ يَا مُحَمَّدُ قُلْ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} حَتَّى بَلَغَ {وَلَا الضَّالِّينَ}». الْحَدِيثَ. هَذَا مُرْسَلٌ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ.وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْ نُزُولِهَا بَعْدَ مَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ (اقْرَأْ) وَ(الْمُدَّثِّرُ).الْقَوْلُ الرَّابِعُ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. حَكَاهُ ابْنُ النَّقِيبِ فِي مُقَدِّمَةِ تَفْسِيرِهِ قَوْلًا زَائِدًا.وَأَخْرَجَ الْوَاحِدِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ، قَالَا: أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ {بِسْمِ الِلَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَأَوَّلُ سُورَةٍ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}.وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ اسْتَعِذْ، ثُمَّ قُلْ {بِسْمِ الِلَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.وَعِنْدِي: أَنَّ هَذَا لَا يُعَدُّ قَوْلًا بِرَأْسِهِ، فَإِنَّهُ مِنْ ضَرُورَةِ نُزُولِ السُّورَةِ نُزُولُ الْبَسْمَلَةِ مَعَهَا فَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى الْإِطْلَاقِ.وَوَرَدَ فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ حَدِيثٌ آخَرُ: رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ سُورَةٌ مِنَ الْمُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ.وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذَا: بِأَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ (اقْرَأْ) وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ.وَأُجِيبَ بِأَنَّ (مِنْ) مُقَدَّرَةٌ: أَيْ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ. وَالْمُرَادُ سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ، فَإِنَّهَا أَوَّلُ مَا نَزَلَ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ، وَفِي آخِرِهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَلَعَلَّ آخِرَهَا قَبْلَ نُزُولِ بَقِيَّةَ (اقْرَأْ).
|